النص لا يمتلك حياة خاصة به؛ فهو يظل ناقصًا حتى يمرّ بعقل يستقبله ويفسّره. العقل في هذه العملية يشبه العدسة: إما يوسع آفاق المعنى أو يضيقه ويحدّه. النص العظيم يصبح سطحيًا إذا دُخل إليه بعقل محدود، تمامًا كالذي يرفع رأسه للسماء ولا يرى إلا العتمة بينما يراها غيره فضاءً مليئًا بالنجوم.
مع هذا، لا يمكن تجاهل أن للنص الأصيل قوة نافذة تفرض نفسها، حتى لو لم يكن المتلقي مؤهلاً بشكل كامل. قد يلتقط القارئ ومضة عابرة من النص، شرارة تفتح داخله بابًا جديدًا على المعرفة أو الإحساس، ما يجعل للنص قيمة حقيقية تتخطى مجرد الكتابة. فالنص الجيد يكوّنه الكاتب ويحييه القارئ معًا.
تجربة القراءة إذًا ليست انفعالاً عاطفياً فقط، بل هي لقاء ديناميكي بين وجدان المتلقي ومنطقه، يتزاوج فيه الخيال مع التحليل العقلي. النص الأدبي الحقيقي يشكّل شراكة متكاملة: نصفها يُخلق بسحر اللغة ومهارة الكاتب، ونصفها الآخر ينبع من ثقافة القارئ وخبرته وعمق وعيه. وبذلك يتحول النص إلى تجربة حيّة تتجاوز حدود الحروف، ونبض إبداع لا يُستنفد بمعنى واحد أو بقراءة سطحية واحدة.

