في لحظة عابرة ومليئة بالمفارقة، يروي الأديب إبراهيم المازني أنه اشترى يومًا زيتونًا من بقالٍ فقير، فلفّه له الرجل في ورقة حملها إلى بيته، وحين فتحها فإذا بها صفحة نُزعت من ديوانه الذي باع ما تبقى منه "بالأُقَّة". من تلك اللحظة، كما يقول المازني، بدأ يرى الأدب من زاوية مختلفة؛ متسائلًا عن قيمة الكتابة إذا كان مصيرها الأخير هو أن تصبح غلافًا للسلع في دكاكين البقالين.
في تأملات المازني تتجلى أزمة الأديب مع مجتمعه، والهوة الواسعة بين طموح الإبداع وقسوة الواقع. الأدب الذي حلم به كنبض للروح وحارس للذاكرة، انتهى ورق مهمل بين يدي الباعة، في دلالة جارحة على التهميش الذي يلاقيه المبدع إذا ابتعدت حياة الناس عن قيم الجمال والمعرفة.
هذه المفارقة المؤلمة لا تخص المازني وحده، بل تختصر معاناة جيل كامل من الأدباء والشعراء الذين يصوغون أجمل أحلامهم في كتب، ثم يكتشفون أنها قد تنتهي في خدمة خانعة لتغليف البضائع أو لف السلع الرخيصة. فهل ما زال للأدب مكانة، إذا كان يُستهلك كأي مفردة من مفردات اليوم العابر؟
ربما تحمل التجربة في جوهرها دعوة للسؤال والتجدد: ما قيمة الكلمة إذا غابت عن وجدان المجتمع؟ وهل قدر الأدب أن يكون حبيس الرفوف أو مُستهلكًا بلا أثر؟ تلك هي هواجس المازني في زمن أبصر فيه ديوانه يختفي تحت الزيتون، ورأى الأدب يغازل مصيره بصمت وبسخرية حزينة.


