عبد الله العروي: لماذا شاركتُ في المسيرة الخضراء

أضيف بتاريخ 11/06/2025
عبر جون أفريك

كان عبد الله العروي المعروف بانحيازه للبحث الهادئ والتحليل التاريخي بعيدًا عن ضجيج السياسة والشعارات، من آخر من يُتوقع أن ينخرط في حشد شعبي ضخم. ومع ذلك، لبّى دعوة الملك الحسن الثاني في 6 نوفمبر/ 1975 وشارك مع مئات الآلاف في عبور رمزي نحو الصحراء المغربية، في لحظة تشكّلت فيها الوطنية كفعل جماعي لا كشعار.



يشرح العروي سبب "المشي" من منظور فكري قبل أن يكون عاطفيًا. كان قد أنهى حينها دراسة عن الوطنية المغربية أبرزت أن جماعات من الأطلس المتوسط، رغم تحفظها على السلطة المركزية في مراحل معينة، كانت لا تتردد في تلبية نداء السلطان عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن التراب شمالًا وجنوبًا. استعاد مثال حرب تطوان سنة 1861 ضد إسبانيا، حيث تحولت خطب الفقهاء في أسواق أزرو إلى تعبئة فورية للقتال في الريف. بالنسبة له، جاءت المسيرة الخضراء امتدادًا لتلك البنية التاريخية للانخراط الشعبي في لحظات المفصل الوطني.

لم تكن نتيجة المسيرة مضمونة. كان احتمال استخدام القوة من قبل إسبانيا حاضرًا، خاصة وأن واقع ما قبل 6 نوفمبر كان يشير إلى سباق على الأرض بين القوات المغربية والجزائرية شرق الصحراء. يرفض العروي توصيف العملية بأنها "مقامرة"، ويرى أنها كانت ردًا سياسيًا ذكيًا على معادلة ميزان القوى: المغرب لم يكن مهيئًا لافتتاح مواجهة عسكرية تقليدية، فاقتضت الحكمة تدشين خطوة سلمية جماهيرية تملأ الفراغ وتُكسب الموقف المغربي شرعية شعبية ودولية. ويستعيد هنا السياق الإسباني الداخلي؛ فقد جاءت وفاة فرانكو في 20 نوفمبر 1975 لتربك الحسابات في مدريد كما في محيطها الإقليمي، ما عجّل بتبدلات على الأرض. ويُفترض أن الحسن الثاني كان مطّلعًا على هذه التعقيدات، كما يفعل أي قائد يخوض مواجهة دبلوماسية وعسكرية دقيقة، لكن الدافع الحاسم في رأيه كان واقعيًا: شراء الوقت ريثما تكتمل الجاهزية العسكرية، وتحقيق حضور فعلي في أجزاء من الصحراء أخلتها إسبانيا بالتنسيق مع حلفائها.

على الطريق بين طانطان وتاه، تَبدّى للعروي بُعدٌ آخر للمسيرة: التنظيم. نقلُ وإمداد مئات الآلاف على طريق ضيقة، تسيير القوافل بلا اختناقات، وضبط الحركة من نقاط حدودية إلى أكادير في ساعات قليلة. لفتته كذلك فجوةٌ بين ما كان يسمعه شفهيًا من بعض المراسلين الأجانب وما نُشر لاحقًا في صحفهم. لكن المشهد الذي بقي عالقًا في ذاكرته كان بسيطًا ومعبّرًا: عند الغروب، ضوء أصفر يغمر الصحراء، وعلى مقربة من نقطة حدودية قديمة طفلٌ يلوّح بالعلم وحده في الفضاء المفتوح. في تلك اللقطة لخّص العروي معنى المسيرة الخضراء: وطنية حية تتجسد بلا خطاب زائد.

حين صدر الأمر بعودة "المشّائين" وانتهاء المرحلة الرمزية، لم يُخفِ العروي شعورًا بالمرارة؛ فالعودة إلى خط 6 نوفمبر تُوحي ضمنًا بتثبيت خط فاصل. لكنه يرى أن الهدف السياسي قد تحقق: إقناع الرأي العام الدولي بأن المطالب المغربية جدية لأنها شعبية. كما يؤكد أنه لم يظن يومًا أن "ملف الصحراء" قابل للإغلاق السريع، نظرًا لتقاطعات المصالح الإقليمية والدولية. هنا يضع العروي إصبعه على ثغرة مبكرة: صانعي القرار في الرباط لم يتعاملوا مع الصحراء باعتبارها مسارًا طويلًا يبدأ بالمسيرة ولا ينتهي بها، ولم يدركوا أن إسبانيا ليست الخصم الرئيسي في معادلة ما بعد الانسحاب.

يشرح أيضًا استحالة تحويل زخم جماهيري بهذا الحجم إلى آلة عسكرية دائمة. الكلفة باهظة، وأي دولة تفضّل أدوات يمكن التحكم فيها. لذلك انكفأت الإدارة إلى معالجة ما رُئي وقتها مسائل محلية وإدارية، وعادت فئات واسعة من المجتمع إلى تفاصيل اليومي. لكن اختبار التعبئة ظل حاضرًا؛ فلو تعرّض المغرب لاعتداء مباشر، يتوقع العروي أن تتجدد الاستجابة بذات الروح.

في قراءة العروي، لم تكن المسيرة الخضراء "لحظة عاطفية عابرة" بقدر ما كانت ذروة من ذرى التاريخ المغربي الحديث، كشفت عن طريقة اشتغال الوطنية حين تتحول من سردية إلى فعل جماعي منضبط. لقد منحت الدولة وقتًا ومساحة مناورة، ورسمت صورة أخلاقية للمطالبة بالسيادة على الصحراء، وأعادت تحديد العلاقة بين القرار السياسي والقاعدة الشعبية خارج قوالب التعبئة التقليدية. بين واقعية الدولة وحكمة التدرج، وبين شحنة الانتماء التي لمسها المؤرخ في مشهد طفل يلوّح بالعلم، يتشكل معنى تلك الأيام الخمسة التي ما زالت حاضرة في الذاكرة المغربية.

في هذا السياق، تُفهم مواقف العروي من النقاشات التي دارت آنذاك داخل الطيف السياسي، ومنها تحفّظات جزء من المعارضة مثل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حول جدوى المسيرة مقابل خيار التعبئة العسكرية المباشرة. بالنسبة له، لم يكن الانخراط في المسيرة تناقضًا مع النقد، بل كان توظيفًا لأداة شرعية سلمية عندما لا تكون الحرب خيارًا رشيدًا. أما توصيفات من قبيل "ضربة حظ" أو "مقامرة" فيرفضها لأنها تُسقط من الحساب حسابات الواقع: بيئة إسبانية انتقالية، سباق نفوذ شرق الصحراء، وتقدير دقيق لتوقيت الخطوة وحجمها.

بين التحليل التاريخي والتجربة الشخصية، يقدم عبد الله العروي مقاربة تُعيد ترتيب الأسئلة: ليست المسيرة الخضراء خاتمة فصل، بل فاتحة مسار طويل في بناء الإجماع الوطني حول الصحراء المغربية، حيث يتجاور القرار السياسي مع طاقة المجتمع دون مبالغة أو تهوين، ودون حاجة إلى كليشيهات تفسد وضوح الصورة.

 

صدر الحوار الأصلي الذي بني عليه هذا المقال في مجلة "جون أفريك" بتاريخ 28 مايو 1980، ويمكن الرجوع إلى النسخة المنشورة عبر هذا الرابط: Jeune Afrique.