جسور المعرفة الحضارية: "التجسير في النظام المعرفي الإسلامي" يعيد اكتشاف آليات الحوار الحضاري

أضيف بتاريخ 08/19/2025
الجِنان Al Jinane


يأتي كتاب "التجسير في النظام المعرفي الإسلامي – تجربة في ثقافة الحوار بين الحضارات" للدكتور صلاح الدين العامري كإضافة فكرية مهمة للمكتبة العربية الإسلامية المعاصرة، حيث يقدم رؤية تجديدية عميقة لواحدة من أهم التجارب الحضارية في التاريخ الإنساني. صدر هذا العمل مؤخراً عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث في المغرب، ليكون بمثابة دعوة للتأمل في الإرث المعرفي الإسلامي وإمكانيات استلهامه في الحاضر والمستقبل[1][2].

ينطلق الدكتور العامري من فرضية أساسية مفادها أن المقصود بالتجسير في النظام المعرفي الإسلامي تلك التجربة الاستثنائية التي خاضها العقل الإسلامي في صناعة العلوم والمعارف، إلى حدود القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي تقريباً[1]. يؤكد الكاتب أن العقل الإسلامي نجح خلال تلك المرحلة المضيئة من تاريخ العقل البشري في الانفتاح على العقول الحضارية ذات الإنتاج الإبداعي، فترجم علومها ومعارفها بشكل اختياري وإرادي، وتمثلها، وأعاد إنتاجها بما ينسجم مع ثوابته، وبما جعله يتفاعل مع محيطه الإنساني بكثير من الجرأة والإيجابية[1].

تراوح إنتاج العلوم والمعارف في تلك الحقبة الذهبية بين المحافظة على ما تم نقله، والإضافة إليه وتطويره، بل تجاوزه بالابتكار والمراكمة. وكانت الميزة الأبرز للعقل الإسلامي هي تعدد المعارف والعلوم في العقل الواحد، وتداخلها وتفاعلها إلى حد التكامل في العديد من المسائل، فكان الباحث في مجال ما يجمع بين العلوم الدينية والإنسانية والطبيعية في الآن ذاته، يتنقل بعقله بين مرجعياتها المعرفية كلها لبناء معارفه في المجال الواحد[1].

يدور هذا البحث المعمق على إشكالية مركزية تتمثل في حاجة العقل العربي والإسلامي إلى التجدد والانبعاث من أجل استعادة دوره الحضاري والإنساني، والاستفادة من تجربته السابقة في الريادة والإبداع. تنبني هذه الإشكالية على السؤال المحوري: لماذا يحتاج النظام المعرفي الإسلامي اليوم إلى الانخراط في التحولات الجذرية التي تشهدها مناهج البحث المعاصرة؟[1]

يشدد المؤلف على أن أساس المناهج الجديدة هو تفاعل العلوم والمعارف، بعد أن عزلها البحث التخصصي، وأفقدها الكثير من فاعليتها. ويتفرع عن هذا السؤال المركزي مجموعة من الأسئلة المتعلقة بطبيعة الشروط الأساسية لاستعادة الدور الحضاري، وبسياقات هذه الاستعادة، وآلياتها، ورهاناتها[1].

من بين الأسئلة الجوهرية التي يطرحها الكتاب: كيف تشكلت آليات تجربة التجسير بين المعارف التي أنجزها العقل الإسلامي، وما هي معالمها؟ وما آفاق مواكبة حالة المرور من النموذج المعرفي التخصصي إلى النموذج المعرفي التفاعلي والتكاملي؟ وهل يمتلك العقل الإسلامي القدرة لخوض تجربة التجاوز والتجديد استناداً إلى تجربته السابقة؟[1]

يتميز منهج الدكتور العامري في هذا العمل بكونه لا يقتصر على التحليل التاريخي المجرد، بل يسعى إلى استكشاف كيف مثل منهج البحث التفاعلي والتكاملي بين العلوم والمعارف في الموروث الإسلامي تجربة حقيقية في الحوار بين الأديان والثقافات والحضارات[1]. هذا الطرح يضع الكتاب في سياق النقاشات المعاصرة حول حوار الحضارات والتبادل المعرفي بين الثقافات المختلفة.

يأتي هذا الكتاب في وقت تشهد فيه المنطقة العربية والإسلامية تحديات معرفية وحضارية كبيرة، حيث تبرز الحاجة الماسة إلى إعادة النظر في النماذج المعرفية السائدة والاستفادة من التجارب التاريخية الناجحة في التفاعل الحضاري. يقدم الدكتور العامري رؤية متوازنة تجمع بين الاعتزاز بالإرث الحضاري الإسلامي والانفتاح على المعارف والتجارب الإنسانية المعاصرة.

تنبع أهمية هذا العمل من كونه يعالج إشكالية معرفية جوهرية تتعلق بكيفية تجديد آليات التفكير والبحث في السياق الإسلامي المعاصر. يسلط الكتاب الضوء على التجربة التاريخية للعقل الإسلامي في التعامل مع المعارف المختلفة، ويستخلص منها دروساً وعبراً يمكن الاستفادة منها في الحاضر والمستقبل[2].

يتناول الكتاب بعمق موضوع الحوار بين الحضارات من منظور إسلامي، ويقدم نموذجاً تطبيقياً لكيفية ممارسة هذا الحوار بناءً على التجربة التاريخية الثرية للحضارة الإسلامية. يؤكد المؤلف أن الحضارة الإسلامية قدمت في عصورها الذهبية نموذجاً فريداً في التعامل مع المعارف والثقافات المختلفة، حيث لم تقتصر على النقل والترجمة، بل تجاوزت ذلك إلى الإبداع والابتكار.

يستعرض الدكتور العامري في كتابه الطبيعة التفاعلية للنظام المعرفي الإسلامي التاريخي، والذي تميز بقدرته على دمج المعارف المختلفة في إطار فكري متماسك. هذا التفاعل لم يكن مجرد عملية ميكانيكية للجمع بين المعارف، بل كان عملية إبداعية تقوم على إعادة تشكيل المعرفة وتطويرها بما يتناسب مع الرؤية الحضارية الإسلامية.

من الجوانب المهمة التي يسلط عليها الكتاب الضوء، الدور الذي لعبته ترجمة العلوم والمعارف في إثراء الحضارة الإسلامية وتطويرها. لم تكن الترجمة مجرد نقل حرفي للنصوص، بل كانت عملية تأويل وإعادة صياغة تتطلب فهماً عميقاً للمضامين المعرفية ومرونة في التعامل مع المفاهيم والأفكار المختلفة.

يؤكد الكتاب على أن تجربة التجسير في النظام المعرفي الإسلامي تقدم دروساً قيمة للعصر الحاضر، خاصة في ظل التحديات التي تواجه المجتمعات الإسلامية في مجال التنمية المعرفية والعلمية. يدعو المؤلف إلى الاستلهام من هذه التجربة التاريخية لبناء نموذج معرفي معاصر يجمع بين الأصالة والمعاصرة.

تتضح رؤية الدكتور العامري في التأكيد على ضرورة تجاوز النموذج المعرفي التخصصي الضيق الذي يهيمن على البحث العلمي المعاصر، والانتقال إلى نموذج تفاعلي وتكاملي يستفيد من التجربة التاريخية للحضارة الإسلامية. هذا التوجه يتطلب إعادة النظر في مناهج البحث والتعليم، وتطوير آليات جديدة للتفاعل بين التخصصات المختلفة.

يمثل كتاب "التجسير في النظام المعرفي الإسلامي" مساهمة قيمة في النقاش المعاصر حول التجديد الحضاري في العالم الإسلامي. يقدم الدكتور صلاح الدين العامري رؤية متوازنة وعملية لكيفية الاستفادة من التجربة التاريخية الثرية للحضارة الإسلامية في مواجهة تحديات العصر الحاضر. إن هذا العمل يؤكد على أن الحوار بين الحضارات ليس مجرد شعار نظري، بل ممارسة عملية لها جذورها العميقة في التجربة الحضارية الإسلامية، ويمكن إحياؤها وتطويرها لتساهم في بناء عالم أكثر تفهماً وتعاوناً.