عندما يصبح الحب جنوناً: "مجانين أم كلثوم" يكشف الوجه الآخر لعشاق كوكب الشرق

أضيف بتاريخ 08/18/2025
الجِنان Al Jinane


يأتي كتاب "مجانين أم كلثوم" للكاتب المصري شريف صالح كإضافة مميزة للأدب العربي المعاصر. حيث يقدم رؤية سردية جديدة ومبتكرة لأسطورة الطرب العربي أم كلثوم وعالم عشاقها المخلصين. صدر هذا العمل عن الدار المصرية اللبنانية في بداية عام 2025، بالتزامن مع مرور خمسين عاماً على رحيل "الست" عن عالمنا. ليكون بمثابة احتفالية أدبية بذكرى كوكب الشرق.

هذه الرواية لا تقتصر على مجرد التوثيق لروائع أم كلثوم، بل تمثل محاولة جادة لرسم سردية جديدة لأغنياتها التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الهوية المصرية والعربية. شريف صالح في تقديم الضلع الرابع في معادلة الأغنية، وهو الجمهور العريض للست، أولئك الذين ساهموا في صنع أسطورتها وبفضلهم لا يزال صوتها يصدح في البيوت والشوارع والمقاهي من المحيط إلى الخليج.

تنطلق الرواية من حكاية بطلها جلال عبد الفتاح عاشور، وهو مخرج مسرحي مصري عادي. تتداخل حياته مع جمعية شبه سرية تحمل اسم "حراس أم كلثوم"، والتي تضم نخبة من عشاق كوكب الشرق، من بينهم والدته التي تشغل منصب المتحدث الرسمي للجمعية. يجمع بين أفراد هذه الجمعية الشيخ والقسيس في آن واحد، وسعوا من خلالها إلى توثيق كل ما يتعلق بأم كلثوم منذ بداياتها وحتى وفاتها.

شريف صالح تقنية تيار الوعي ليسير بالسرد عبر ثلاث مسارات رئيسية تتداخل بسلاسة وانسيابية مدهشة. المسار الأول يتناول حكاية جلال وعلاقته العاطفية بأم كلثوم وزوجته وسام، بينما يكشف المسار الثاني عن سيرة أم كلثوم نفسها ومسيرة حياتها من طفولتها البسيطة في قرية طماي الزهايرة إلى انتقالها للقاهرة وصعودها لتصبح أهم مغنية في مصر والعالم العربي. أما المسار الثالث فيسلط الضوء على أعضاء جمعية "حراس أم كلثوم" وعالمهم السري المرسوم بعناية فائقة.

تبرز الرواية في تناولها النقدي والتأملي لمسيرة أم كلثوم ومشوارها الفني. يقدم شريف صالح ذلك بانسيابية ووعي شديدين، مع الحرص على عدم الإطالة في الجوانب الفنية. بل يسعى للربط بين عالم أم كلثوم وأبطال روايته. تأتي كلمات الأغاني لتكون خلفية موسيقية لحالة بطل الرواية أو عرضاً لإحدى مشكلاته. كما يعقد مقارنات بين أم كلثوم وزوجته. وهو في كل الأحوال ينتصر للحب ولأم كلثوم.

يتناول العمل بجرأة مشاهد قهر الرجل وسطوة الزوجة عليه، وهو ما يندر في الأعمال الأدبية العربية التي تميل لتمجيد صورة الرجل الشرقي بفحولته وسيطرته. من خلال شخصية جلال، يطرح الكاتب تساؤلات عميقة حول الحب والزواج وما يمكن أن يعطب هذه العلاقة، واقفاً عند تفاصيل دقيقة بسيطة لا تخلو منها أي علاقة زوجية.

في إحدى لحظات المكاشفة، يقول البطل: "كنتُ ضحية تقديس أم كلثوم المفرط لمعنى الحب، فهي لا تغني كي تشرح لنا معناه، بل تعتبره مقدساً ونحن من نسيء إليه بتصرفاتنا". هذا الاقتباس يكشف عن عمق الرؤية الفلسفية للعمل، الذي يتجاوز كونه مجرد رواية عن مطربة إلى تأمل في طبيعة الحب والعلاقات الإنسانية.

استخدم شريف صالح تقنية جديدة وهي الهوامش على جانب الصفحة. هذه الهوامش تعرض رسائل جمعها محبو أم كلثوم أحيانًا، أو تتناول تفاصيل من الحكاية التي تأتي في المتن. تمتزج هذه التقنية مع السرد الذي يعتمد على الانتقال بين الحكايات المختلفة، سواء بين الماضي والحاضر، أو بين حكايات أم كلثوم وحكاية بطل الرواية، أو حتى حكاية أفراد جمعية أم كلثوم في الوقت نفسه.

يُحسب لشريف صالح، الكاتب والصحفي المصري الحاصل على دكتوراه في النقد الأدبي من أكاديمية الفنون، أنه استطاع تقديم عمل أدبي يجعل القارئ يتفاعل مع أغنيات أم كلثوم بطريقة مختلفة تماماً. فهو الذي حصد عدداً من الجوائز المهمة منها جائزة ساويرس في القصة القصيرة عن مجموعة "مثلث العشق"، وجائزة دبي الثقافية عن مجموعة "بيضة على الشاطئ"، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عن مسرحية "رقصة الديك".

تكشف الرواية عن جوانب من سيرة وحياة أم كلثوم، وتجعل القارئ واحداً من هؤلاء المجانين المحبين للفن والجمال، الساعين للبحث عنه مهما ساءت أحوالهم أو تعقدت ظروف الحياة بهم. كما تنجح في تقديم رؤية للتراث الفني العظيم في زمن يتغير فيه الذوق الموسيقي باستمرار.

شريف صالح، الذي يصف نفسه بأنه أحد الذين ارتبطت حياتهم بصوت "الست" منذ أكثر من أربعين عاماً، يعتبر أنها كانت ولا تزال "خبزه اليومى".وترافقه أثناء القراءة والكتابة، وتمنحه الدفء في الليالي الباردة، وتحرضه على الحب والهروب منه في آن واحد. هذا الارتباط الشخصي العميق ينعكس بوضوح في صفحات الرواية، التي تنقل للقارئ شعوراً صادقاً بالانتماء لعالم أم كلثوم أكثر من أي شيء آخر.

استطاع "مجانين أم كلثوم" أن يقدم عملاً أدبياً ممتعاً وشيقاً، يمزج بين التوثيق والتخييل بطريقة إبداعية. ويؤكد أن صوت أم كلثوم سيظل ونساً للمحبين والناس الطيبين، ينتصرون به على الحروب العبثية وبؤس الأيام. فنحن جميعاً، بشكل أو بآخر، من عالم "مجانين أم كلثوم"، وهذه سيرتنا التي حملتها سطور هذا العمل الاستثنائي.