يأتي كتاب "النيوليبرالية - دراسات في السلطة والاقتصاد والدين" للدكتور إبراهيم مصطفى (كابان) كإضافة فكرية مهمة للمكتبة العربية المعاصرة، حيث يقدم تحليلاً نقدياً معمقاً لأحد أهم الأنظمة الاقتصادية المهيمنة في عالمنا اليوم. صدر هذا العمل عن المركز الجيوستراتيجي للدراسات في أغسطس 2025، ليكون بمثابة دليل للفهم العميق لتعقيدات النيوليبرالية وتأثيراتها المتشعبة على مختلف جوانب الحياة المعاصرة.
يتميز هذا الكتاب بكونه لا يقتصر على الجانب الاقتصادي المحض للنيوليبرالية، بل يتوسع ليشمل تأثيراتها على بُنى السلطة والمنظومات الدينية والاجتماعية. يطرح الدكتور كابان، الباحث المتخصص في الاقتصاد السياسي والدراسات الجيوستراتيجية، رؤية شاملة تحلل كيف تعيد النيوليبرالية تشكيل العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية في المجتمعات المعاصرة.
ينطلق المؤلف من فرضية أساسية مفادها أن النيوليبرالية ليست مجرد نظرية اقتصادية، بل منظومة فكرية شاملة تعيد تعريف دور الدولة والمجتمع والفرد في إطار منطق السوق. يستند الكتاب إلى مراجعة نقدية واسعة للأدبيات النظرية والتطبيقية، مع التركيز على التجارب العملية لتطبيق السياسات النيوليبرالية في مختلف أنحاء العالم، وبخاصة في البلدان النامية والعربية.
يقدم الكتاب تحليلاً تاريخياً لنشأة الفكر النيوليبرالي وتطوره من كتابات فريدريك هايك وميلتون فريدمان وصولاً إلى تطبيقاته المعاصرة في ظل العولمة الاقتصادية. يركز المؤلف على كيفية تحول النيوليبرالية من مدرسة فكرية إلى سياسات عملية تبنتها المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكيف أثرت هذه السياسات على الهياكل الاقتصادية والاجتماعية في البلدان المختلفة.
يتناول الدكتور كابان بتفصيل كبير العلاقة المعقدة بين النيوليبرالية والسلطة السياسية، مبيناً كيف تعيد هذه الأيديولوجية تعريف دور الدولة من منظم للاقتصاد إلى مجرد حارس لآليات السوق. يحلل الكتاب كيف تؤدي السياسات النيوليبرالية إلى إعادة توزيع السلطة لصالح القطاع الخاص والشركات متعددة الجنسيات، وكيف تؤثر على الديمقراطية والمشاركة السياسية.
في الجانب الديني، يقدم المؤلف مقاربة جديدة لفهم كيفية تفاعل النيوليبرالية مع المنظومات الدينية والثقافية. يستكشف كيف تعيد هذه الأيديولوجية تشكيل القيم الاجتماعية والأخلاقية، وكيف تؤثر على مفاهيم العدالة الاجتماعية والتضامن المجتمعي التي تقوم عليها التعاليم الدينية التقليدية. يطرح تساؤلات مهمة حول التوافق أو التعارض بين منطق السوق الحر والقيم الدينية والأخلاقية.
يسلط الكتاب الضوء على التأثيرات المتناقضة للنيوليبرالية، حيث يحلل كيف يمكن لهذه السياسات أن تحقق نمواً اقتصادياً في بعض الحالات، بينما تؤدي إلى تفاقم عدم المساواة والإقصاء الاجتماعي في حالات أخرى. يقدم المؤلف دراسات حالة من مناطق مختلفة من العالم لتوضيح هذه التناقضات، مع التركيز بشكل خاص على تجارب البلدان العربية والإسلامية.
ينتقد الدكتور كابان الادعاءات النيوليبرالية حول حتمية العولمة الاقتصادية وعدم وجود بدائل للسياسات النيوليبرالية. يطرح رؤى بديلة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تقوم على مبادئ العدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية، مع الأخذ في الاعتبار الخصوصيات الثقافية والدينية للمجتمعات المختلفة.
يتميز منهج المؤلف بالجمع بين النظرية والتطبيق، حيث يقدم تحليلاً نظرياً صارماً مدعوماً بالأدلة التجريبية والإحصائية. يستخدم أدوات التحليل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لفهم تعقيدات النيوليبرالية وتأثيراتها المتشعبة. كما يستفيد من المناهج النقدية المعاصرة في العلوم الاجتماعية لتقديم قراءة متجددة لهذه الظاهرة.
يحذر الكتاب من المخاطر المحتملة للتطبيق الأعمى للسياسات النيوليبرالية دون مراعاة السياقات المحلية والثقافية. يؤكد المؤلف على ضرورة تطوير نماذج تنموية مبتكرة تستفيد من إيجابيات الاقتصاد الحر مع الحفاظ على القيم الاجتماعية والثقافية والدينية التي تشكل الهوية الحضارية للشعوب.
في ختام عمله، يقدم الدكتور كابان رؤية نقدية بناءة تتجاوز مجرد رفض النيوليبرالية إلى تقديم بدائل عملية وقابلة للتطبيق. يدعو إلى إعادة التفكير في دور الدولة والمجتمع المدني في إطار اقتصاديات القرن الحادي والعشرين، مع التأكيد على أهمية المشاركة الديمقراطية في صنع السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
يمثل هذا الكتاب إضافة قيمة للخطاب الأكاديمي العربي حول قضايا الاقتصاد السياسي والتنمية، ويقدم للقارئ العربي أدوات فكرية مهمة لفهم التحديات المعاصرة والمساهمة في صياغة رؤى مستقبلية أكثر عدالة واستدامة. إن هذا العمل يؤكد على أهمية البحث العلمي المتعمق في فهم الظواهر المعقدة التي تشكل واقعنا المعاصر.