من طنجة إلى العالم: كيف أشعلت «سوفل/أنفاس» ثورة الكتاب والتحرّر الثقافي في المغرب (1966–1971)

أضيف بتاريخ 11/20/2025
الجِنان Al Jinane


شهد المغرب خلال الستينيات والسبعينيات إحدى أكثر اللحظات خصوبة في تاريخ الثقافة المطبوعة والتحرّر الثقافي في العالم العربي وإفريقيا، حيث تبلورت تجربة «سوفل/Souffles» بين 1966 و1971 كمختبر إبداعي جمع شعراء وروائيين ونقادًا وفنانين تشكيليين ومصوّرين، وربط مشاريع النشر بمفهوم «التحرّر الثقافي» على نطاق وطني وعالمي. تمحور المشروع حول مجلة «سوفل» بالفرنسية وشقيقتها العربية «أنفاس»، إلى جانب كتيّبات شعرية وكتب جيبية وملصقات ومنشورات حملت توقيع أسماء أصبحت لاحقًا علامات في الأدب والفن المغربيين: عبد اللطيف اللعبي، محمد خير الدين، مصطفى نيسابوري، طاهر بن جلون، محمد مليحي، محمد شبعة، وإبراهام السرفاتي، وغيرهم.

انبنت رؤية «سوفل» على إيمان صارم بقوة الشعر والنشر في إحداث «ثورة كتاب» تعيد صياغة العلاقة بين المغرب وفرنسا، وبين إفريقيا وأوروبا، بعد نهاية الحقبة الاستعمارية. لم تقتصر الفكرة على الخطاب، بل تجسّدت في مؤسسات وممارسات: مجلة، سلسلة كتيّبات، دار نشر، وجمعية للبحث الثقافي، مع حرص على الطباعة داخل المغرب لبناء بنية تحتية محلية للنشر، وتوسيع دوائر التوزيع والشراكات عبر الضفة الشمالية للمتوسط وإفريقيا.

في طنجة، لعبت مطبعة «الإديسيون المغربية والدولية» دورًا حاسمًا، إذ تولّت طباعة أعداد «سوفل» ومعظم منشوراتها بطريقة «الحرف المعدني» التقليدية؛ ما منح المطبوعات طابعًا ماديًا خاصًا: أعمال خفيفة ورشيقة، بين الكتاب والكتيّب والدورية، بجاذبية بصرية واقتصاد في الكلفة، لكنها مشغولة بعناية تصميمية تلمسها اليد والعين. أبدع محمد مليحي ومحمد شبعة أغلفة وتخطيطات صارت جزءًا من تاريخ الحداثة البصرية في المغرب، من بينها غلاف ديوان «رأس» لعبد اللطيف اللعبي، وصور فوتوغرافية وتصميمات تزاوج بين الجرأة والاقتصاد.

لم تكن «سوفل» ظاهرة محلية فحسب؛ فقد انفتحت على بان-إفريقية واضحة، وواكبت شبكات النشر المناهضة للاستعمار في فرنسا وسويسرا خلال الثورة الجزائرية، وتقاطعت مع ناشرين أمثال بيار-جان أوزفال في شمال فرنسا. في افتتاحية العدد الأول، أعلن اللعبي أن «شيئًا يتخلّق في إفريقيا وفي بلدان العالم الثالث»، فيما رأى خير الدين أن الريادة الثقافية الحقيقية تتشكّل في الجنوب، لا في أوروبا، في إشارة إلى مجلتهم ذاتها. هكذا صارت «سوفل/أنفاس» منصة للتضامن مع قضايا التحرّر، ومنها القضية الفلسطينية والحركات المناهضة للإمبريالية في القارة.

تكشف الإهداءات الشخصية على نسخ بعض الكتب عن الرهان الأخلاقي والسياسي للمجموعة: قدّم اللعبي نسخة من «العين والليل» (1969) إلى إبراهيم السرفاتي بعبارة تُحيل إلى تحويل «الحوار» إلى «أفعال تغييرية»، ووقّع طاهر بن جلون ديوانه الأول (1971) لصديقه السرفاتي بأمل «إيقاظ الرجال من نومهم المديد». هذه الشواهد، المحفوظة اليوم في المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، تؤرخ لإيمان جماعي بدور الأدب في التغيير الاجتماعي والسياسي.

انتهت المرحلة الأولى من التجربة مع تصاعد القمع بداية السبعينيات: اعتُقل عبد اللطيف اللعبي وإبراهيم السرفاتي في يناير 1972 بسبب نشاطهما السياسي، فتوقّفت «سوفل» في المغرب، وتحول نضالها إلى الفضاءات العابرة للحدود؛ إذ ظهرت مبادرات داعمة في باريس، ونُشرت نصوص اللعبي في منابر فرنسية. وبعد الإفراج عنه في 1982، انخرط اللعبي في مشاريع الترجمة الأدبية ضمن اليونسكو، فيما واصل بعض رفاقه العمل الثقافي بإيقاع أقل صدامًا، مع إصدار مجلات ودور نشر جديدة، واستمرار مليحي وشبعة في ابتكار تصميمات تطبع ذاكرة السبعينيات والثمانينيات.

تظل «سوفل/أنفاس» اليوم موضوعًا للبحث والأرشفة والمعارض والمشاريع الرقمية، داخل المغرب وخارجه، بوصفها تجربة طباعية وثقافية رائدة تبرهن كيف يمكن للكلمة المطبوعة أن تصبح مؤسسة وفعلًا وموقفًا. بين طنجة والرباط والدار البيضاء، نسجت هذه المجموعة شبكة من الأفكار والأوراق والصور والصداقات والتضامنات، أرست ملامح حداثة مغربية وإفريقية، وما زالت تُقرأ كدرس في تحرير الثقافة عبر أدوات الكتاب والمجلة والملصق.

للاستماع إلى الحلقة وقراءة المزيد