ديريك بارفيت، الذي وُلد عام 1942 وتوفي مطلع عام 2017، يُعد من أكثر الفلاسفة تأثيرًا في الفكر المعاصر، إذ أحدث تحولًا عميقًا في الطريقة التي نتعامل بها مع مسألة الهوية الشخصية ومفاهيم الأخلاق. لقد اشتهر بطرح تجارب فكرية جريئة تضع القارئ في مواجهة أسئلة مزلزلة: إذا تم تدمير جسدي وأُعيد تكويني على كوكب آخر بصورة مطابقة جسديًا ونفسيًا، فهل هذا الشخص ما زال أنا؟ وإذا تم خلق عدة نسخ، أيها هو "الحقيقي"؟ بالنسبة لبارفيت، لم يكن هناك "جوهر ثابت" أو حقيقة خفية تحدد هوية الفرد، بل كانت الاستمرارية النفسية والروابط الذهنية عبر الزمن كافية لشرح ما نعنيه عندما نتحدث عن بقاء الشخص. من هنا اتضح أنه من الممكن التفكير بالهوية على أنها درجات من التواصل وليست حقيقة مطلقة، وأننا قد نهتم بأنفسنا المستقبلية بنفس الطريقة التي تجعلنا مطالبين بالاهتمام بالآخرين.
لقد نقض بارفيت التصورات التقليدية حول المصلحة الذاتية باعتبارها المحرك العقلاني الأوحد للسلوك الإنساني. ورأى أن الإنسان قد يكون عقلانياً حتى وهو يضحي بحياته من أجل إنقاذ الآخرين، أو عندما يتخلى عن لذاته الحالية من أجل مصلحة نفسه المستقبلية. هذا التفكير أتاح له بناء مقاربة أخلاقية أكثر حيادًا، تعطي وزنًا أكبر لمعاناة الآخرين واحتياجات الأجيال المقبلة، وليس فقط لمصالح الفرد الآنية. وهنا برز مجاله الجديد المسمى "أخلاقيات السكان"، الذي يبحث في كيفية تأثير خياراتنا الحاضرة على نوعية حياة من سيولدون في المستقبل. وقد طرح ما عُرف بـ"النتيجة البغيضة"، وهي المفارقة التي تشير إلى أن الحسابات النفعية البحتة قد تفضل عالمًا مليئًا بالناس الذين يعيشون حياة بالكاد تستحق أن تعاش على عالم أصغر أكثر رفاهية وسعادة، وهو ما كرس جهده الفلسفي لتجنبه ومعالجته.
اشتهر بارفيت بعملين بارزين هما *"أسباب وأشخاص"* (1984)، الذي اعتبر ثورة في الفلسفة التحليلية، و*"حول ما يهم"* (2011)، وهو عمل ضخم حاول فيه الجمع بين الكانطية من خلال مبدأ الواجب الكلي، والتعاقدية القائمة على الاتفاق العقلاني، والنفعية القاعدية التي تهتم بالنتائج. هذه المحاولة الكبرى لصوغ "نظرية ثلاثية" للأخلاق أثارت نقاشات فلسفية واسعة حول مدى إمكانية التوفيق بين تلك المناهج المتباينة. وقد نال بارفيت بفضل هذه الإنجازات جائزة رولف شوك في الفلسفة والمنطق عام 2014، وهي من أرفع الجوائز التكريمية في هذا المجال.
حياته الشخصية كانت بدورها انعكاسًا لطبيعته الفكرية الصارمة والمتفانية؛ فقد عاش بانضباط شديد، يتناول وجبات متشابهة، ويرتدي ملابس متطابقة لتجنب إضاعة الوقت في التفاصيل اليومية، وكان يميل إلى الجري بدل المشي لتكثيف إنتاجيته. ومع شغفه الخالص بالفلسفة، وجد في التصوير المعماري وسيلة للتعبير عن حسه الجمالي، حيث كان يعيد تعديل الصور بدقة لامتناهية كما لو كان يعيد تعديل أفكاره النظرية. كما ارتبط بالحركة المعروفة باسم "الإحسان الفعّال"، حيث دعا إلى تخصيص جزء ثابت من الدخل لدعم القضايا الإنسانية الأكثر إلحاحًا مثل الفقر والمجاعة.
إن تأثير بارفيت الفلسفي لم يقتصر على الأوساط الأكاديمية، بل تسرب أيضًا إلى النقاشات العامة حول الفقر العالمي، عدم المساواة، التغير المناخي، ومسؤوليتنا تجاه الأجيال القادمة. فقد منحنا إطارًا نظريًا يمكن من خلاله التفكير في هذه المسائل المعقدة بطريقة عقلانية وإبداعية، بعيدًا عن ضيق الأفق الشخصي. وكما كتبته جين أوغرادي في صحيفة *The Guardian* في نعيها له عام 2017، فإن بارفيت لم يكتف بطرح أسئلة فلسفية مجردة، بل ربطها دومًا بالقضايا التي تمس مصير البشرية جمعاء، تاركًا وراءه إرثًا سيظل يلهم الفلاسفة وصانعي السياسات لسنوات طويلة.