كيف يحوّل “المسخ” كافكا إلى مرآة للاقتصاد والأسرة والهوية

أضيف بتاريخ 08/23/2025
الجِنان Al Jinane


يرتقي نص “المسخ” لفرانز كافكا، المنشور أول مرة عام 1915، إلى مرتبة الأعمال المؤسسة للأدب الحديث. هذا لا لغرابة واقعة تحوّل غريغور سامسا إلى “حشرة هائلة” فحسب، بل لأن هذا التحوّل يعمل بوصفه مجازاً مكثفاً لعلاقات الإنسان بالأسرة والعمل والذات في مجتمع حديث لا يقدّر الفرد إلا بقدر نفعه الاقتصادي. يبدأ السرد بصدمة غير مُفسّرة، ويستمر دون محاولة عقلنة ما جرى، الأمر الذي يرسّخ نبرة عبثية وكوناً سردياً يفتقر إلى العدالة والاتساق. فيما تبقى الكاميرا السردية باردة ومتزنة، على نحو يجعل الكابوس قابلاً للتصديق، ومكثّف الدلالة.

خلفية النشر والسياق تكشف عن نص كُتب في ذروة حدّة كافكا تجاه ذاته وعالمه. فقد نُشرت القصة أولاً في مجلة ألمانية ثم في كتاب ضمن سلسلة أدبية في العام نفسه، وظلّت بين النصوص القليلة التي ظهرت في حياة الكاتب. هذه الواقعة مهمّة لفهم اقتصاد النص: سرد مقتصد، مساحة مكانية ضيّقة (شقة أسرة سامسا، ثم غرفة غريغور)، وزمن يضيق بقدر ما يتلاشى حضور البطل في حياة الآخرين.

تقدّم “المسخ” درساً قاسياً في الاغتراب. التحوّل الجسدي يُظهر ما كان كامناً: عامل مبيعات أنهكته الديون وساعات السفر، يعيش لأجل إعالة الأسرة، ويقيس قيمته بقدرته على السداد. حين يفقد قابليته للعمل، ينكشف سريعاً منطق العلاقات: التعاطف الأولي يتبدّد، وتغلب لغة المنفعة وتدبير المعيشة، ويتحوّل وجوده إلى عبء ينبغي عزله ثم إخفاؤه. هذه الحركة من التعاطف إلى الإنكار ليست نزوة سردية، بل تشخيص لأثر الضغط الاقتصادي على الروابط الأسرية وحدود التعاطف حين يتراجع “العائد” الاجتماعي للفرد.

في النص، يتجاور بعدان للتحوّل: تحوّل غريغور الفيزيقي، وتحولات الأسرة. فبمقدار ما يتدهور وضعه، تنهض أخته وأبوه وأمه أدواراً جديدة: يعملون، يعيدون تنظيم المعيشة، وتغدو غريته غرفة مُهملات. هنا لا يُقترح “انتصار” أسري بقدر ما تُبرز المفارقة: تجدّد حياة الآخرين يحصل على حساب محو البطل نفسه. هذه المفارقة، المألوفة في قراءة الحداثة بوصفها إعادة تدوير دائمة للوظائف والأدوار، تُضيء فكرة مركزية في النص: أن الهوية التي تُختزل إلى وظيفة معاشية قابلة للتعطّل والاستبدال.

تُقرأ “المسخ” أيضاً من زاوية العبث الوجودي. الحدث غير المُعلَّل يضع القارئ داخل عالم لا تُقدَّم له أسباب ولا خلاصات أخلاقية مُطمئنة. غريغور بعقلانية يومية رغم الكارثة: يقلق على القطار والوظيفة والديون قبل جسده الغريب. يجرّب النظام وسط اللانظام، لكنّ جهد الاستيعاب يعجز أمام عالم لا يستجيب. في هذا المعنى، لا تدعو القصة إلى الاستسلام بقدر ما ترصد هشاشة مشروع “التفسير” حين يواجه واقعاً لا يفسّره.

من منظور نقد العمل، يحضر أثر الرأسمالية بوضوح. الوظيفة ليست مصدراً للكرامة بل لعقدة الدَّين والرقابة الإدارية. المدير يظهر في البيت مراقباً لا شريكاً إنسانياً؛ والأب مدين، خانق، يستعيد سلطته بالعنف حين يخسر الابن وظيفته الرمزية كمعيل. هنا، النص لا يشيطن الأفراد قدر ما يعرّي البنية: قيمة الفرد مرهونة بإنتاجيته، ومع تعطّلها تتعطل قابليته لتلقّي الرعاية.

كافكا يشتغل بأسلوبية تتضمن جملة طويلة محكمة وإيقاع رتيب مقصود يُفاقم شعور الاختناق. المنظور يظلّ قريباً من وعي غريغور، بحيث نتعرّف العالم بوساطة إدراك لم يعد يطابق جسده. هذا التوتر بين ذهنية بشرية وقالب جسدي “دوني” يغذّي أسئلة الهوية: ماذا يبقى من “أنا” حين تُسلب علاماتها الاجتماعية واللغوية والحركية؟ وما حدّ الإنسانية إن تعطّلت اللغة المشتركة والإفادة الاقتصادية؟

يتكثّف أثاث الغرفة بوصفه مرآة، رمزيّاً: يزاح الأثاث فيتلاشى تاريخ غريغور، تبقى صورة امرأة مؤطرة كذكرى هشة لجمال مُتخيّل، ثم تتحوّل الغرفة إلى مكبّ أشياء. هنا، ليس خلفية بل جهاز معنوي يترجم انكماش الذات وتشييئها. وكما تُظهر القراءات التعليمية الشائعة، تتوزع الثيمات بين الاغتراب، ضغوط العائلة، حدود التعاطف، الذنب والتضحية، والمال بوصفه معياراً للعلاقات.

من زاوية التلقي العالمي، صار تصوير غريغور كصرصور أيقونة بصرية، رغم حذر كافكا اللغوي في وصف “vermín هائل” بلا تحديد نوعي. هذا الانزلاق البصري في الثقافة الشعبية يشي برغبة تلقّي تبسيطيّة تُمسك بالرمز وتفلت من تعقيده، لكنه يكشف أيضاً قدرة النص على توليد صور عابرة للغات والسياقات.

لا تقترح حلولاً، بل تضع مرآة أمام القارئ: ماذا يبقى من الروابط حين تنكسر آلية المنفعة؟ ما الذي يصون كرامة الفرد إذا تعطّل جسده عن إنتاج القيمة؟ وكيف يمكن للأسرة أن تكون ملاذاً لا مؤسّسة محاسبة؟ عبر سرد مقتصد، ومسافة أسلوبية باردة، وفضاء منزلي مُختنق، ينجح كافكا في تحويل واقعة خارقة إلى تشريح اجتماعي ونفسي للحداثة المبكرة، بما يجعل نصه قابلاً للقراءة في سياقات اليوم حيث تتجدد أسئلة العمل والرعاية والهوية تحت ضغوط اقتصادية وثقافية متبدّلة.