«عصر هتلر وكيف سننجو منه» لأليك رايري: حين لا تكفي كراهية الشر لصناعة أخلاق عامة متماسكة

أضيف بتاريخ 08/23/2025
الجِنان Al Jinane

يقدّم المؤرخ البريطاني أليك رايري في كتابه «عصر هتلر وكيف سننجو منه» أطروحة نقدية جريئة: إن الإجماع الأخلاقي الغربي الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الثانية على شيطنة هتلر والنازية لم يعد يكفي لِحمل منظومتنا القيمية العامة أو توجيه بوصلتنا السياسية والثقافية. فالتأسيس الأخلاقي على «ضدّ هتلر» أنتج رؤية سلبية تُعرّف الخير بما ليس هو، لا بما هو عليه، ومع تلاشي الذاكرة الحيّة للمحرقة وتبدّل السياقات، يغدو هذا الإجماع أقل قدرة على إنتاج معنى مشترك أو حلول ناجعة للتحديات الراهنة



يرسم رايري سردية انتقال الغرب الأنجلوساكسوني من مركزية المسيحية كإطارٍ مرجعي للأخلاق العامة إلى اعتماد سردية مضادّة تُحيل إلى الحرب العالمية الثانية وحقوق الإنسان بوصفها «ديانةً مدنية» بديلة. ففي أعقاب هزيمة النازية، تحوّل هتلر إلى رمزٍ مطلق للشر، وانعقد حوله اتفاق ثقافي وسياسي يؤكد الحرية والكرامة والمساواة باعتبارها حقوقاً «كونية». لكن هذا البناء، في نظر المؤلف، قام على ركيزة نفيٍ لا إثبات: نعرف ما نرفضه، لكننا لا نتوافق بالقدر نفسه على ما نريده من «خير مشترك» محدّد الملامح.

يناقش الكتاب أربعة أعطاب مركزية في «أخلاق مضادّة للنازية». أولاً، إن تعريف الذات أخلاقياً ضد مثالٍ للشر يترك فراغاً في تحديد غايات الخير ومحتواه الإيجابي. ثانياً، إن الدروس المستقاة من حربٍ شمولية غير قابلة للتعميم على معظم النزاعات المعقّدة التي تنتهي بتسويات غير بطولية. ثالثاً، إن إسقاط «عدسة هتلر» على كل طاغية وكل صراع يُضلّل القرار السياسي ويختزل الواقع في ثنائيات الخير والشر المطلقة. رابعاً، إن الخطاب الحقوقي الذي يقدَّم ككونيّ هو في جوهره نتاجٌ تاريخي خاص لسياق ما بعد الحرب، وقوّته في ادعاء عموميته قد تنقلب هشاشةً عندما يواجه مطالب الموازنة بين حقوق متنازعة أو أسئلة معيارية لا تجيب عنها الحقوق وحدها.

يُقدّم رايري أمثلة راهنة تؤكد قصور النموذج المضاد لهتلر عن الإرشاد العملي: تغيّر المناخ والأوبئة لا تُواجَه بمنطق «هزم الشرير»، وقضايا النوع الاجتماعي تكشف أن توسيع منطق الحقوق يحتاج إلى مرجعيّات معيارية أعمق تحدّد «الخير» و«الحدود» و«الواجب» خارج إطار الحقوق بوصفها أوعية فارغة. هنا يستعيد المؤلف، صراحةً أو تلميحاً، نقد الفيلسوف ألاسدير ماكنتاير لفكرة «الحقوق الطبيعية» بوصفها بناءً تاريخياً يفتقر للتسويغ إذا انفصل عن تقاليد أخلاقية غنية ومؤسِّسة للمعنى.

لا يدعو رايري إلى هدم مكاسب الحقبة الليبرالية، ولا إلى ردّةٍ ضدّ حقوق الإنسان، بل إلى إعادة وصل هذه الحقوق بتقاليد أخلاقية ودينية قادرة على إمدادها بالمحتوى والمعيار. فحقوق الإنسان، برأيه، إنجازٌ ينبغي صونه، لكنها ليست كافية وحدها لتشكيل أخلاق عامة صلبة أو لتوجيه السياسات في عالمٍ تتداخل فيه المعضلات التقنية والبيئية والثقافية.

ينتهي الكتاب إلى لحظة انتقال: «عصر هتلر» يتداعى من دون أن يتّضح بديله بعد. وبين «تقدميين علمانيين» و«محافظين تقليديين»، يدعو رايري إلى مفاوضةٍ أخلاقية جديدة تمزج منجزات ما بعد الحرب بجذورٍ تقليدية أعمق، بحيث لا تكون الديانة المدنية الحقوقية بديلاً عن الموروث الديني والمعياري، بل شريكاً يحتاج إلى تسويغ وتغذية من خارج ذاته. في هذه الروح، يصبح السؤال المركزي: ما الإطار القيمي القادر على تعريف «الخير» المشترك إيجاباً، لا مجرد شجب الشر؟ وكيف يمكن للتقاليد الدينية، وعلى رأسها المسيحية في السياق الغربي الذي يناقشه المؤلف، أن تؤدي دوراً نقدياً وبنائياً من دون ادعاء احتكار المجال العام أو السقوط في استقطابٍ عقيم؟

قيمة الكتاب أنه يزعزع راحة إجماعٍ ثقافي دام عقوداً، ويطالب بإعادة بناء الأساس المعياري للأخلاق العامة على نحوٍ يتيح تجاوز ثنائية «نحن ضد هتلر» نحو تحديدات إيجابية للخير والغاية والفضيلة. إنها دعوةٌ إلى التفكير فيما بعد الأخلاق السلبية: كيف نصوغ لغة سياسية وثقافية تُحسن تشخيص الشر من دون أن تُختزل به، وتُعين على صناعة الصالح العام في عالمٍ لا يشبه سرديات النصر الأخلاقي الحاسم، بل يقتضي حكمة التمييز والتسوية والمسؤولية المشتركة.


[1] Hating Hitler Is Not Enough - Christianity Today