يأتي كتاب "كيليطو: تجويفات" كإضافة مهمة للمكتبة النقدية العربية. حيث يقدم حواراً مفتوحاً ومعمقاً مع أحد أبرز النقاد المغاربة المعاصرين، الدكتور عبد الفتاح كيليطو. هذا العمل الذي أنجزه الناقد خالد بلقاسم والكاتب محسن عتيقي، وصدر عن منشورات المتوسط، يمثل محاولة جادة لسبر أغوار الفكر النقدي لكيليطو واستكشاف الجوانب التي لم تجد طريقها إلى النشر من قبل.
عبد الفتاح كيليطو يحتل موقعاً متميزاً في الساحة النقدية العربية والمغربية، بفضل ما أنتجه من وجهات نظر مفصلية في الأدب العربي. فهو استطاع أن يوسع حدود الرأي الأدبي ليجعل منه رأياً في الفكر والمعرفة والثقافة. وقد راكم كيليطو على مدار عقود متوناً نقدية قوية استطعت اختراق واقع النقد العربي. وتتميز كتاباته بطابعها التجديدي الذي يعطي للشكل قيمة كبيرة. ورغم صغر حجمها، فإن زخمها الفكري قوي جداً على ذائقة القارئ والباحث معاً.
ينقسم الكتاب إلى سبعة فصول. يروي كل فصل جانباً من جوانب اشتغالات كيليطو الفكرية والنقدية. يحمل الفصل الأول عنوان "لغز الحلم الليلي"، بينما يتناول الفصل الثاني "نداء المقامة اللانهائي"، ويركز الفصل الثالث على "الأدب الكلاسيكي"، أما الفصل الرابع فيبحث في "مفهوم الكتاب"، والفصل الخامس يتطرق إلى "مجهول الازدواجية"، والفصل السادس يناقش "الراوي قارئاً أو الحكي عن القراءة بالقراءة"، وأخيراً الفصل السابع الذي يحمل عنوان "تجربة القراءة".
يوضح كيليطو في الكتاب أن المشروع بدأ قبل سنة من صدوره بلقاء جمعه مع المحاورين، حيث تباحثوا حول إمكانية إنجاز حوار يصدر ككتاب، واقترح عليهما أن تكون الأسئلة مكتوبة، وهو ما تحقق فعلاً في الفصول السبعة التي تناولت بصفة شاملة مختلف اهتماماته الأدبية. ويثني كيليطو على عمل المحاورين، واصفاً إياه بالعمل "الجبار"، مشيراً إلى أنهما "رهنا فيه نفسيهما، ورهناني معهما بما طرحاه من أسئلة دقيقة تتعدى بالإجمال إمكاناتي، فلم أستطع الإجابة إلا عن بعضها".
تكتسب مؤلفات كيليطو أهميتها من كونها كتابات تفكيكية من ناحية تفكيرها وتتمتع بقدر كبير من الدهشة على ذاتية القارئ. بل يجد القارئ نفسه أمام كتابة مغايرة من ناحية نسق التفكير لدرجة تبدو فيها الكتابة تتجاوز النقد الكلاسيكي صوب مجال الفكر. فالقارئ لكتابات كيليطو يجد نفسه أمام كتابة تحطم كافة اليقينيات حول مفهوم الأدب، حيث دأب النقاد العرب على إقامة فصل بين الفكر والأدب. في حين يعمل النقد الأدبي عند كيليطو وفق آلية فكرية تستلهم مناهج تحليلية من العلوم الإنسانية ونظيرتها الاجتماعية.
يأتي هذا الكتاب في سياق الوعي بالمكانة المحورية التي يمثلها كيليطو اليوم في المشهد النقدي العربي. كيليطو هو ناقد استطاع أن يجعل من النقد عملاً سندبادياً، يتجول في فضاءات مختلفة، فينقل القارئ من الألفة إلى الغرابة، كما يعبر عبد السلام بن عبد العالي. ويمتع كيليطو قراءه لأنه يعرض بالتفكيك لمسألة النقد ذاتها، فهو ينبذ النزعة التقليدية للنقد، حيث على الباحث أن يختار مؤلفاً معيناً، فيبدأ بالكلام عن العصر، ثم ينتقل إلى حياة المؤلف، مختتماً بآثاره.
تشكل الحوارات الفكرية مع المثقفين والمبدعين أهمية خاصة في الثقافة العربية. إذ نجد في بعض الحوارات مع مفكرين وفنانين ومؤرخين ما لا نعثر عليه داخل كتبهم. وتستمد هذه الحوارات مكانتها وقوتها في كونها تفتح الكاتب على الجانب الحميمي للمبدع في علاقته بالكتابة والفضاء والجسد وغيرها من العناصر التي تشكل عالم الكاتب. غير أن مثل هذه الكتابات التي تأخذ من الحوار ذريعة للتفكير نادرة الوجود داخل الثقافة المغربية. إذ يعتبر الناشرون أن الحوارات تنتمي إلى الصحافة أكثر من كونها تنتمي إلى المجال العلمي.
يتميز المنهج النقدي عند كيليطو بكونه استند في مشروعه النقدي إلى مناهج الأدب المقارن والنظريات النقدية الحديثة، ليعيد قراءة التراث العربي السردي والبلاغي. ورغم اعتماده في كتاباته على نصوص تراثية، مثل كتاب ألف ليلة وليلة ومقامات الهمداني ورسالة الغفران للمعري والبخلاء للجاحظ، فإنه لا يعتبر نفسه باحثاً في الأدب القديم. بل يرى في هذه النصوص منطلقاً لتأملات نقدية تتغذى أيضاً من الأدب الحديث، الفرنسي والإسباني والألماني.
من خلال هذا الحوار المعمق، يكشف "كيليطو: تجويفات" عن أبعاد جديدة في فكر هذا الناقد المتميز. ويقدم للقارئ العربي فرصة نادرة للاطلاع على الجوانب الخفية من تجربته الفكرية والإبداعية. إن هذا العمل يمثل إضافة قيمة للمكتبة النقدية العربية، ويؤكد على أهمية الحوار الفكري في إثراء المشهد الثقافي العربي وكشف الأفكار المبتكرة في عقول مبدعينا ومفكرينا.