يأتي كتاب "العودة(ات)" الصادر عن المجلس العربي للعلوم الاجتماعية في لبنان كثمرة فكرية غنية لحوارات أكاديمية معمقة، حيث يجمع بين دفتيه المداخلات والشهادات التي قُدِّمت في الجلسة الختامية للمؤتمر السابع للمجلس الذي عُقد في بيروت من 15 إلى 18 أيار/مايو 2025[1][2]. يمثل هذا العمل الجماعي إضافة مهمة للأدبيات العربية المعاصرة التي تتناول قضايا الهجرة والنزوح والعودة، وهي من أبرز التحديات التي تواجه المنطقة العربية في العصر الحديث.
جاء هذا الكتاب في سياق مؤتمر حمل عنوان "الدمار والخيال والمعرفة: منعطفات إقليمية وأصداء عالمية"، والذي جمع أكثر من 400 باحث وباحثة من المنطقة العربية والعالم[1][3]. تميز المؤتمر بتناوله للتحديات المعاصرة التي تواجه المنطقة العربية من منظورات متعددة الأبعاد، وقد شكلت الجلسة الختامية حول "العودة(ات)" تتويجاً لهذه النقاشات الفكرية العميقة.
ترأس الجلسة الختامية إلياس قطار من المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، وضمت أربعة متحدثين بارزين في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية[1]. من بين هؤلاء المتحدثين الدكتورة ستناي شامي من المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، التي قدمت تأطيراً نظرياً لمفهوم "العودة(ات)"، والدكتور أباهر السقا من جامعة بيرزيت وعضو مجلس أمناء المجلس العربي للعلوم الاجتماعية[1].
يتناول الكتاب مفهوم العودة من زوايا متعددة، حيث لا يقتصر على الجانب الجغرافي أو المكاني للعودة، بل يتوسع ليشمل أبعاداً نفسية واجتماعية وثقافية وسياسية. يطرح المؤلفون تساؤلات عميقة حول طبيعة العودة في زمن التحولات الجذرية التي تشهدها المنطقة العربية، وكيف تؤثر هذه التحولات على مفاهيم الانتماء والهوية والذاكرة الجماعية.
تأتي أهمية هذا العمل من كونه يعكس الواقع المعقد الذي تعيشه المجتمعات العربية، حيث تتداخل قضايا النزوح والهجرة مع التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. يقدم الكتاب رؤى نقدية حول كيفية تعامل المجتمعات والدول مع قضايا العودة، وما تحمله من تحديات وفرص في الوقت نفسه.
يستند العمل إلى منهجية علمية صارمة تجمع بين التحليل النظري والدراسات الميدانية، حيث يقدم المؤلفون مقاربات متنوعة لفهم ظاهرة العودة في سياقاتها المختلفة. يتميز الكتاب بتنوع المساهمات الفكرية التي تعكس ثراء الفكر العربي المعاصر في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية.
يطرح الكتاب قضايا محورية مثل حق العودة كمبدأ قانوني وأخلاقي، وتأثير السياسات الحكومية على قرارات العودة، والدور الذي تلعبه الذاكرة الجماعية في تشكيل رغبات ومخاوف العائدين. كما يتناول التحديات العملية التي تواجه العائدين، من إعادة الاندماج الاجتماعي إلى إعادة بناء الحياة الاقتصادية والمهنية.
من الجوانب المهمة التي يسلط عليها الكتاب الضوء، العلاقة المعقدة بين العودة والتغيير الاجتماعي. يحلل المؤلفون كيف يمكن للعائدين أن يكونوا عوامل تغيير في مجتمعاتهم الأصلية، من خلال ما اكتسبوه من خبرات ومهارات ورؤى جديدة أثناء فترة غيابهم. في الوقت نفسه، يستكشف الكتاب التحديات التي قد تواجه العائدين في التكيف مع التغييرات التي طرأت على مجتمعاتهم في غيابهم.
يتميز المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، الذي أصدر هذا الكتاب، بكونه مؤسسة إقليمية مستقلة لا تبغي الربح تهدف إلى تعزيز الأبحاث والإنتاج المعرفي في مجال العلوم الاجتماعية بين الأفراد والمؤسسات البحثية الأكاديمية في المنطقة العربية[4]. يتخذ المجلس من بيروت مقراً له، ويعمل في جميع أنحاء المنطقة العربية وحول العالم، مما يضفي على أعماله طابعاً إقليمياً وعالمياً في الوقت نفسه.
يساهم هذا الكتاب في إثراء النقاش الأكاديمي والمجتمعي حول قضايا الهجرة والعودة في المنطقة العربية، ويقدم إطاراً نظرياً ومنهجياً يمكن الاستفادة منه في وضع السياسات والبرامج المتعلقة بهذه القضايا. كما يوفر منصة للحوار بين الباحثين والممارسين والسياسيين حول أفضل الطرق للتعامل مع تحديات العودة وفرصها.
يأتي صدور هذا الكتاب في وقت تشهد فيه المنطقة العربية تحولات جذرية تؤثر على أنماط الهجرة والنزوح والعودة. من الحروب والنزاعات المسلحة إلى التحديات الاقتصادية والبيئية، تواجه المجتمعات العربية ضغوطاً متزايدة تجعل من قضايا التنقل والعودة محوراً أساسياً في أي نقاش حول مستقبل المنطقة.
في النهاية، يمثل كتاب "العودة(ات)" مساهمة قيمة في الأدبيات العربية المعاصرة، ويوفر رؤى عميقة ومتنوعة حول واحدة من أهم القضايا التي تواجه المنطقة العربية اليوم. إن هذا العمل الجماعي يؤكد على أهمية البحث العلمي التشاركي في فهم التحديات المعقدة وتطوير حلول مبتكرة لها، ويساهم في بناء جسور الفهم والحوار بين مختلف الفاعلين المعنيين بقضايا الهجرة والعودة في العالم العربي.